جواد سليم.. وإطلالة الفن التشكيلي الحديث في العراق

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
11/09/2007 06:00 AM
GMT



يحق للمرء أن يتساءل: ما الذي كان يخبئه جواد سليم للفن التشكيلي العراقي والعربي لو لم يرحل مبكرا،
 وهو الذي ارتبطت باسمه حركة الحداثة الفنية اعتمادا على التراث الذي لم يتحول لديه الى عائق يحول دون انفتاحه على التجارب العالمية. ومن هذا التمازج خلق جواد اسلوبه المتميز المتواصل بين الموروث الشعبي 'احياء بغداد القديمة' وحضارات بابل وسومر وآشور، وصولا الى العالمية من خلال تأثره بكبار الفنانين أمثال بيكاسو وماتيس وغيرهما.
لقد فعل الكثير في سنوات عمره القصير (1919 - 1961) إذ تفتحت موهبته في سن مبكرة، ووجدت الرعاية من لدن عائلته الفنية، حيث كان والده واشقاؤه وشقيقته رسامين. عندما بلغ التاسعة عشرة حصل على منحة لدراسة فن النحت في باريس، لكن قيام الحرب العالمية الثانية حال دون ذلك فانتقل الى روما ومع زحف الحرب اليها وجد نفسه في بغداد. لكنه لم يفقد الامل في مواصلة الدراسة فالتحق في اعوام 1946 - 1949 في كلية 'سليد' البريطانية في فرع النحت. وارتبطت عودته الى العراق بحدث مهم في تاريخ الحركة التشكيلية العراقية، حيث بادر في عام 1951 الى تأسيس 'جماعة بغداد للفن الحديث'، بعد مرور عام واحد على تأسيس جماعة الرواد للفنان فائق حسن.
وقد تم اعلان جماعة بغداد في معرضها الاول الذي اقيم في العام نفسه، وقدم له جواد بكلمة جاء فيها: هنا في هذا المعرض نحاول ان نناسب ما تنتجه البشرية ولو الى حد ضئيل باللغة العالمية 'التصوير' كعراقيين مستلهمين ما يثيرنا في طبيعتنا ومحيطنا المحض، وان يعبروا عن اشكالات العصر والقلق والخوف، التباين الهائل في اكثر الاشياء، المجازر البشرية وابتعاد الناس عن الله ثم النظرة الجديدة للاشياء بما احدثته النظريات الجديدة.

بيان جماعة بغداد
جاء في البيان الذي تلاه الفنان شاكر حسن آل سعيد: 'ان اتجاها جديدا في فن التصوير سيتولى حل المشكلة في يقظة عصرية لتقطع الطريق نفسه التي قطعها، قطع المراحل الاولى منها فنان القرن الثالث عشر الميلادي، ولسوف يجد الجيل الجديد ان بداية ابتدأها اسلافهم تلمس طريقها على رغم الظلمة والخطورة، وتثقل كاهل الفنان العراقي الحديث بوتر ثقافة وطابع الحضارة المحلية. ان هذه التي تظهر اليوم بشكل المعرض الاول للفن الحديث وتجمع ما بين شتى الدراسات الحديثة من انطباعية وتعبيرية وسريالية وتكعيبية وتجريدية لهي اول مبادرة بعد الحرب العالمية الثانية تتلمس طريقها بخطى راسخة نحو خلق الشخصية ا لفذة لحضارتنا. ونحن إذا لم نحقق انفسنا في الفن، شأننا في باقي المناحي الفكرية، فإننا لن نجد في انفسنا المقدرة على خوض غمار حرب ضروس.
ولا يمكن الحديث عن بدايات او اطلالة الحركة التشكيلية الحديثة في العراق من دون التطرق الى الفنان فائق حسن وجماعته 'الرواد'، اذ يشكل الفنانان فائق وجواد ركنا اساسيا في ولادة هذه الحركة ويكمل بعضهما البعض الآخر على الرغم من اختلاف وجهات نظرهما وأسلوبهما.
يقول الفنان فائق في احدى رسائله مؤكدا عمق علاقته بجواد: التقيت به الى حين وفاته. وقد أثمرت تلك العلاقة آثارا قيمة واضحة للفن العراقي المعاصر، حينما جاهدنا بدراسة المشكلة الفنية بعد إنهاء الدراسة في الخارج وساعدتنا الظروف آنذاك على تفهمها وفتحنا الطريق للجيل الجديد ليشق طريقه على ضوء اعمالنا. وقد انفردت مرة اخرى بعد وفاة هذا الزميل الذي لن يعوض.

دور الفنانين الأجانب
لا يمكن هنا تجاهل دور الفنانين الاجانب الذين جاؤوا الى بغداد خلال الحرب وما تركوه من اثر على الفنانين العراقيين.
يقول جواد سليم في مذكراته عنهم عام 1944: جاء الى بغداد في فترة محدودة من الزمن اناس كثيرون. واذا كانت اوروبا قد اوقفت حركة انتاجهم، فإن بغداد هيأتها للعمل، وفتحت للفنان منهم عالما جديدا من المرئيات تحت ظلال قبابها الفنية. ولم يكن هؤلاء طلاب 'البوزار' في باريس او 'السليدس سكول' في لندن، بل كانوا ذوي افكار جديدة فهم الذين يمزجون في انتاجهم الفني عصارة تأملاتهم ودراساتهم بدنيا احساسهم وخيالهم. كان هؤلاء الاجانب ذا اثر على هذه الفئة من الاشخاص. ولم يكن التأثير مجرد تبادل مدارس جديدة للفن، فقد ارتبط هؤلاء بعضهم مع بعض بميل فطري واحد هو انساني محظ: حب الحياة، والكفاح في سبيل النظام الطبيعي، حب الحياة والاشياء البسيطة التي تنسينا الموت.

النصب الملحمة
كان 'نصب الحرية' العمل الاكثر روعة وفخامة في تاريخ الحركة التشكيلية العراقية الحديث، الذي تمتد مساحاته الى العناصر الاسطورية التاريخية. وهو ملحمة متجددة يتفاعل مضمونها الانساني مع دلالات ثورة 14 تموز عام 1958، معبرا عن حرية العراقيين وتحدياتهم للظلم والاستبداد والقهر.
ولسنا الآن في معرض تحليل وشرح مضامين هذا العمل الكبير. فقد كتب عنه الكثير من قبل كبار الفنانين التشكيليين والنقاد والادباء.. الخ.
ومن ابرز اعماله الاخرى منحوتته المشهورة 'السجين السياسي' التي هربها الى لندن عام 1953 للمشاركة في مسابقة دولية شملت 3500 من النحاتين العالميين، حيث فاز بالمرتبة الاولى بين فناني الوطن العربي، والمرتبة السادسة بين نحاتي العالم.
ومن اعماله الاخرى 'الانسان والارض 1955'، 'امرأة وثور.. البناء 1944'، 'الطفل الميت 1947' كما جسد الحياة العراقية في لوحات عديدة منها: الخياطة، قيلولة فتاة وطير، بائع الطيور، بائع الشربت، العرسان.
ولا ينسى العراقيون شعار الجمهورية العراقية الذي صممه بعد اعلان الجمهورية عام 1958 متضمنا رموز العراق كلها تقريبا.

شهادات
الحلم الذي تحقق
كان لجواد سليم هاجس قديم قاله في مذكراته، بأنه يحلم بوضع نصب كبير في احدى ساحات بغداد يمر من تحته الناس، وتحقق ذلك عندما طلب منه تصميم نصب الحرية. فقد كان متأزم الحركة قلق الحال لأن الحكومة العراقية استعجلته لاكمال النصب قبل ان تمر ذكرى ثورة 14 تموز 1958. من شدة قلقه نقل الى المستشفى وقال عباراته المعروفة هذا اول نصب عراقي بأيد عراقية بعد آخر نصب آشوري.
الفنان محمد غني حكمت

استلهام الحضارات
استلهم جواد سليم اشكاله من حضارات وادي الرافدين والحدث الراهن ليعيد المشهد البانورامي للملحمة الى الاسلوب السومري في بناء الرؤية الفنية على الاناء النذري. و أكد الفنان هنا فكرة دورة المياه في تأسيس الحضارات بالاستعانة بنهري دجلة والفرات، موطن الحضارات على ضفافه. واستلهم الفنان تعاقب الاشكال في الاناء النذري كما اشار اليه في شريط يمثل حقلا، ثم شريط آخر يمثل قطعانا من ماشية، وسنابل وقمح، وابرز الفنان دور المرأة الفاعل. فكانت منحوتة 'الامومة' التي عبر عنها الفنان بتطويع المادة الصلبة بانحناءات كشفت تناسق الجسد.
الفنان اسماعيل الشيخلي

انتماء تراث
يحاول جواد سليم ان يجانس بين مواضيعه واساليبه ليبعد نفسه عن اي تأثير ادائي مسبق لهذا الفنان او ذاك، وان يختزل الوانه وخطوطه، ويكثف تعبيريتها، ويشدد على البقع اللونية المتحاورة مع اشكاله. فلا يبقى من 'ماتيس' غير رهافة الوانه وحسه الزخرفي، ولا من بيكاسو غير دراميته وبروز انفعاله بموضوعاته، ومن 'كليه' و'ميرو' غير نزوعهما العفوي، مندمجة بفرادة لوحاته الملأى بكل ما يعزز من انتمائها المحلي والتراثي والاسلوبي عبر ترصيده الواعي لحركات شخوصهم وجلساتهم، واستخدامه انصاف الاقواس وارباعها كاشكال متميزة او كتل لونية، الى جانب المربعات والمثلثات والدوائر، والرموز ا لمحلية والتراثية المتمثلة في الاطواق والقباب والشبابيك واسيجة الشرفات والنخيل..الخ.
الشاعر بلند الحيدري